تداعيات حرب غزة- نحو توازنات مختلفة في علاقة حماس وإسرائيل

المؤلف: أمجد أحمد جبريل09.13.2025
تداعيات حرب غزة- نحو توازنات مختلفة في علاقة حماس وإسرائيل

على الرغم من التفاوت الشاسع في القوة العسكرية بين حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وإسرائيل، فإنَّ الآثار المترتبة على حرب الإبادة التي استهدفت قطاع غزة في الفترة ما بين عامي (2023-2025) قد أفرزت تحولات جوهرية في طبيعة العلاقة بين الطرفين، مما قد يشير إلى إمكانية تطورها نحو معادلات جديدة أكثر توازناً، وذلك ضمن مسار معقد ومتشابك.

يتجلى ذلك في التضاؤل التدريجي للأهمية النسبية للأبعاد العسكرية في مستقبل هذه العلاقة، في مقابل التعاظم المطرد لأبعاد "القوة الشاملة"، والتي تتضمن الجوانب المعنوية والرمزية والتحررية والسياسية، الأمر الذي قد يسهم في تعزيز قدرة حماس على المضي قدماً في سياساتها التفاوضية، وربما تحقيق "مكاسب متوالية" في مواجهة إسرائيل، دون الحاجة إلى تقديم تنازلات إضافية لم يتم الاتفاق عليها في اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى في قطاع غزة بتاريخ (15/1/2025).

في سياق تحليل العوامل والمحددات المؤثرة في علاقة "حماس" بإسرائيل، وسياقاتها الخارجية ومساراتها المستقبلية، يمكن إبراز أربع ملاحظات أساسية:

الملاحظة الأولى: قصور القدرة الإسرائيلية

لقد عجزت حكومة بنيامين نتنياهو عن تحقيق نصر حاسم باستخدام القوة العسكرية، على الرغم من توظيفها لكافة أدوات حرب الإبادة، مثل: (اللجوء إلى تجويع المدنيين كسلاح، وفرض حصار اقتصادي خانق عليهم، واستهداف متلقي المساعدات الإنسانية بشكل متكرر، والتعمد في استهداف المستشفيات والملاجئ والمدارس ومنشآت البنية التحتية، وتنفيذ سياسات "الأرض المحروقة" و"التهجير" القسري و"التطهير العرقي"، وذلك ضمن ما عُرف بـ "خطة الجنرالات".. إلخ). كما فشل نتنياهو وكبار قادة جيشه في إجبار حماس على وجه الخصوص، وفصائل المقاومة الفلسطينية بشكل عام، على الاستسلام و "رفع الراية البيضاء"، والقبول بشروط الاستسلام الإسرائيلية في المفاوضات.

وعلى الرغم من المناورات التفاوضية الإسرائيلية المتواصلة والمتنوعة، وقدرة نتنياهو على تأخير صفقة تبادل الأسرى لعدة أشهر، فقد تصاعدت بشكل ملحوظ ضغوط عائلات المحتجزين في قطاع غزة، وارتفعت الأصوات المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة في إخفاق الدولة في التعامل مع هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، مما ينطوي على دلالتين هامتين:

الأولى، أن نتنياهو وكبار مسؤولي حكومته قد يواجهون قريباً "مواجهة حادة"، وتبادل الاتهامات بالتقصير والمسؤولية عن الفشل بين المستويين السياسي والعسكري.

والثانية، محدودية أدوات الضغط الإسرائيلية المتبقية، وتضاؤل فعاليتها ضد حماس وقطاع غزة بشكل عام، باستثناء محاولة "كسب الوقت" و "التأجيل"، وذلك بعد اتضاح نتيجة حرب الإبادة في فشل تهجير سكان غزة، فضلاً عن كسر إرادة المقاومة.

الملاحظة الثانية: قدرة حماس على إحداث الارباك

أثبتت حماس قدرتها الفائقة على "إرباك" الاستراتيجية الإسرائيلية وتقويض ميزة "المبادرة الاستباقية" ضد الجانب الفلسطيني؛ إذ يكشف النهج التفاوضي الذي تتبعه حماس عن فهم عميق للعقلية الإسرائيلية، وإمكانية الاعتماد على المقاومة في إذكاء التناقضات والصراعات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي، كما يتضح من الرسائل التي وضعتها كتائب القسام في خلفيات مشاهد تسليم المحتجزين الإسرائيليين، (مثل: "نحن الطوفان… نحن اليوم التالي"، "الأرض تعرف أهلها.. من الأغراب مزدوجي الجنسية"، "اخلع حذاءك، فكل شبر من هذه الأرض روي بدماء الشهداء"، "وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق"، "نحن الطوفان.. نحن البأس الشديد"، صورة قائد كتائب القسام محمد الضيف التي كُتب عليها: "نستطيع أن نغير مجرى التاريخ".. إلخ).

يكشف تحليل هذه الرسائل عن براعة حماس على المستويات التفاوضية والإعلامية والدعائية؛ إذ قدمت نموذجاً مغايراً لنهج "الاعتدال التفاوضي العربي" الذي ساد منذ اتفاقيات فض الاشتباك بين كل من مصر وسوريا والجانب الإسرائيلي (1974 – 1975)؛ والذي أفضى بالدول العربية إلى مسارات التسوية والتطبيع ( كامب ديفيد 1978، ومؤتمر مدريد 1991، واتفاقات أوسلو 1993)، بكل ما ترتب على ذلك من نتائج سلبية على وحدة المواقف العربية وتماسكها وإحداث التضارب بينها.

لقد نجحت حماس في الجمع بين المرونة والتمسك بثوابتها وحقوق شعبها، ودفعت إسرائيل إلى تعديل معاييرها في الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، على نحو أبرز درجة من "التكافؤ السياسي"، عبر تعزيز مكانة الجانب الفلسطيني التفاوضية بشكل عام، والتركيز على قيمة حرية الأسرى، بعد تشكل طرف فلسطيني مقاوم على الأرض، قادر على التعبير عن الإرادة الشعبية والتطلعات المجتمعية في تحرير الأسرى من سجونهم.

وهي قضية تمس كل بيت فلسطيني تقريباً، وذلك على عكس ما فعله المفاوض العربي والفلسطيني، الذي همش قضية الأسرى، في إطار عملية التسوية، التي ركزت على الإجراءات الشكلية دون تحقيق السلام الحقيقي، خاصة في ظل مسار أوسلو المتعثر.

وعلى الرغم من أن عملية "التفاوض غير المباشر" بين حماس وإسرائيل، قد تكون من أعقد المفاوضات في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي برمته، فإنها أسفرت عن ثلاث نتائج متداخلة:

  • أولها تأكيد "التفوق الأخلاقي" للشعب الفلسطيني على عدوه، وحرص كتائب القسام على حسن معاملة المحتجزين الإسرائيليين، (كما تجلى في صورة الجندي المحتجز عومرشيم كوف، الذي قبّل رؤوس آسريه من القسام في منطقة النصيرات في 22 فبراير/ شباط 2025، مما يؤكد اهتمام حماس بـ "معركة استمالة العقول والقلوب"، بالتوازي مع صمود فصائل المقاومة الميداني.
  • وثانيتها ترسيخ مكانة حماس التفاوضية، وإضفاء قدر من "الشرعية الواقعية الإقليمية" عليها، باعتبارها "طرفاً مفاوضاً ومسؤولاً وملتزماً" أمام الوسطاء القطريين والمصريين، على الرغم من تصاعد التهديدات الأميركية، وتكرار المراوغات التفاوضية الإسرائيلية.
  • وثالثتها أن صمود الشعب الفلسطيني وثبات إرادته، في مقاومة الضغوط الأميركية الإسرائيلية، قد يحركان في نهاية المطاف قدراً من الدعم العربي والإقليمي، والتوافق حول "الحد الأدنى"، المتمثل في رفض تهجير الشعب الفلسطيني، و"الحد الأقصى" المتمثل في أمرين؛ أحدهما العودة إلى دعم مسار الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية على حدود 4 يونيو/حزيران 1967، باعتباره "مخرجاً واقعياً" في التعامل مع تداعيات حرب الإبادة.

والآخر الانفتاح الرسمي العربي على قوى المقاومة الفلسطينية، التي تتلاقى مع الأهداف العربية المعلنة، في منع تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، وبذلك تلعب قضية فلسطين دور "الرافعة"، تمهيداً لإرساء حالة من "التماسك" في النظام الإقليمي في المنطقة، في مواجهة الضغوط الخارجية، ولا سيما الأميركية.

الملاحظة الثالثة: تزايد مستوى التعقيد

كان لطبيعة الصراع بين "حماس" وإسرائيل انعكاسات على تزايد مستوى التعقيد والتشابك في علاقتهما، خاصة بعد هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، الذي جاء في سياق مقاومة تحولات المشروع الصهيوني بعد صعود تيارات "الصهيونية الجديدة"، ذات الطابع القومي/الديني، وتخلي إسرائيل عن سياسات إدارة الصراع أو "تجميده"، والتوجه نحو مرحلة "حسم الصراع"، بالتهجير والإبادة للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة، مع استمرار حصار غزة وعزلها تماماً عن الجسد الفلسطيني، ومنع أي احتمال لتوحيد الساحات الفلسطينية، (كما حدث إبان عملية سيف القدس في مايو/ أيار 2021).

وبهذا المعنى، تكون حرب غزة الراهنة، قد أعادت تشكيل قواعد الصراع بين حماس وإسرائيل، وكذا تفسير الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، لمعاني النصر والهزيمة؛ إذ سيعتمد الانتصار على القدرة على إدارة الصراع، والاستمرار في حشد الطاقات المجتمعية لدى الطرفين، في هذا "الصراع الاجتماعي السياسي المصيري الممتد".

خاصة مع اقتراب دخوله مرحلة الحسم، ربما في المستقبل القريب، وتصاعد احتمال حدوث تشققات جوهرية في إسرائيل ومعسكر داعميها الدوليين والإقليميين، بالتوازي مع احتمال انتقال الصراع تدريجياً نحو الضفة الغربية والقدس المحتلة، وربما وصولاً إلى اندلاع انتفاضة فلسطينية شاملة، بسبب "التصادم الحتمي"، بين مكونات الاستراتيجية الإسرائيلية: (العنف، وإرهاب الدولة، والإبادة، والتهجير القسري)، في مقابل ارتدادات مشاهد "العودة الفلسطينية" الملهمة، على الصعيدين الرمزي والسياسي.

إذ تابع العالم عودة المهجرين قسراً، إلى منطقة شمال غزة: (محافظتي غزة والشمال)، عبر شارع الرشيد سيراً على الأقدام، التي أكدت "عظمة الشعب الفلسطيني، ورسوخه في أرضه، وانتصاره، وإعلان فشل وهزيمة الاحتلال ومخططات التهجير"، كما أعلنت حماس في بيانها في 27 يناير/ كانون الثاني 2025.

الملاحظة الرابعة: تأثير البيئة الخارجية

للبيئة الخارجية، الدولية والإقليمية، تأثير ملموس على علاقة حماس بإسرائيل، في ظل تفاعل الضغوط الأميركية في موضوع تهجير سكان قطاع غزة، والاعتراض الأممي والدولي عليه، وبروز التحفظ المصري، السعودي، التركي، الإيراني على مقترحات الرئيس دونالد ترامب، بالتوازي مع تضاؤل أوراق الضغط الإسرائيلية على حماس وقطاع غزة، بعد استنفاد كافة أساليب الضغط المتاحة؛ (سواء عبر الضغط العسكري، أم التجويع والحصار والتهجير القسري، أم شنّ الدعاية والحروب النفسية، كما ذُكر سابقاً).

ليس من المبالغة القول إن هذه التفاعلات الدولية والإقليمية المعقدة تؤكد أن تأثير تبادل الأسرى في نمط العلاقة بين "حماس" وإسرائيل، يكشف مفارقة جلية، تُظهر تدهور صورة نتنياهو وحكومته أمام الجمهور الإسرائيلي، وخاصة عائلات الأسرى، في مقابل تعزيز صورة حماس أمام سكان غزة والشعب الفلسطيني، وكذلك أمام العالم، باعتبارها "حركة تحرر وطني"، تعمل على تحرير الأسرى والإنسان والأرض الفلسطينية، من براثن الاحتلال الغاشم.

ختاماً، يمكن القول إن المحصلة النهائية لتداعيات حرب غزة تدفع بالعلاقة بين حماس وإسرائيل نحو "معادلات مختلفة"، تعكس طبيعة معارك التحرر الوطني، أكثر من معادلات توازن القوى، بالمنظور الواقعي في العلاقات الدولية، مع الأخذ في الاعتبار أن طبيعة "المرحلة الانتقالية" التي يمر بها النظامان الدولي والإقليمي، تسمح، على الأقل نظرياً، للفاعلين الدوليين والإقليميين بتخفيف قيود بنية النظامين الدولي والإقليمي، (كما تفعل تركيا وإيران وقطر وجنوب أفريقيا.. إلخ).

كما أن استمرار دولة الاحتلال في عدوانها على فلسطين ولبنان وسوريا، ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام، قد يؤدي إلى تصاعد الصراعات الإقليمية، نحو خروج الأمور عن السيطرة، وظهور تيارات متطرفة، جهادية، أو حتى فوضوية عنيفة، بالتوازي مع إطلاق مسار عملية عالمية طويلة لعزل إسرائيل ومعاقبتها على جرائمها، خاصة بعد انضمام دول عدة إلى قضية الإبادة المرفوعة من قبل جنوب أفريقيا ضد إسرائيل.

وكذلك بعد إصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر قبض بحق كل من بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق، يوآف غالانت، وهي جوانب هامة تعزز "الانتصارات المعنوية" للقضية الفلسطينية، وتؤكد أبعادها السياسية والتحررية والإنسانية، في مقابل وضوح فشل "الرواية الإسرائيلية/ الأميركية"، التي ستظل تحاول تشويه صورة الفلسطينيين العرب، وتجريم حق الشعوب في المقاومة المشروعة للظلم والإرهاب.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة